أعلن المستشار الإعلامي للدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء أن الحكومة تراجع حاليا عقود تصدير الغاز سعيا لتدبير مبلغ 3 أو 4 مليار جنية مصري من فروق الأسعار بعد عملية المراجعة (وفي المصادر الأجنبية للأخبار ذكرت نفس المبالغ بالدولار). الملفت للنظر أن أهداف الحكومة من هذه المراجعة بالغة التواضع بالمقارنة بتقديرات خبراء الطاقة للخسائر المالية التي تتكبدها مصر سنويا جراء بيع الغاز لإسرائيل بأسعار منخفضة جدا عن مستوى الأسعار العالمية فضلا عما يستقطع من العوائد المتواضعة المتبقية من عمولات للشركة الوسيطة الي تقوم بعملية تصدير الغاز.
وجود وسيط للتصدير بين الحكومة المصرية وبين مستوردي الغاز المصري لا يتعلق بالتصدير لإسرائيل وحدها ولكنه أسلوبا متبعا للعديد من البلدان منها إسبانيا على سبيل المثال والتي تحصل على أسعار لا تزيد إلا قليلا عن الأسعار التي تستورد بها إسرائيل الغاز.
إن الأسعار التي تبيع بها الحكومة للشركة الوسيطة تقل عن 2 دولار للمليون وحدة حرارية في حين أن المتوسط العالمي يتراوح ما بين 4.2، 4.3 دولار للمليون وحدة حرارية خلال هذا العام تقريبا. أي أن الحكومة تحصل على أقل من نصف العوائد المتوقعة من تصدير الغاز بهذه الطريقة، فضلا عن خصم عمولات الوسطاء.
إن مبدأ التعامل مع الوسطاء في تصدير الثروات الوطنية يتعارض مع المبادئ الدستورية التي تنص على أن الثروة الوطنية ملك للشعب، والشعب لا يمثل إلا في حكومته. أما أن تتنازل الحكومة عن هذا التمثيل لصالح شركة أو شركات وسيطة، فهذا يعد تفريط واضح في أحد المبادئ الدستورية الهامة، فضلا عن التنازل الاختياري عن جزء من عوائد تصدير الثروة الطبيعية لطرف آخر بلا مبرر حقيقي.
إن سلع مثل الغاز الطبيعي والنفط ليست من السلع البائرة في السوق العالمي والتي يقتضي تسويقها البحث عن وسيط متخصص لترويج السلعة. إننا بصدد سلعة استراتيجية يسعى المستهلكون لها لتكوين مخزون منها وليس مجرد الشراء لمواجهة الاحتياجات اليومية. ومهما زاد المعروض منها في السوق لا يصيب سلعتي الغاز أو النفط بالبوار. إن العرض الفائض لا يؤدي إلا إلي تخفيضات في السعر في أفضل الأحوال، وهو أثر عام ينعكس على السوق العالمي للسلعة ولا يتعلق بصادرات دولة دون أخرى.
الغريب في الأمر أن تبيع مصر منتجها من الغاز بأسعار ثابتة تقل عن نصف مستوى الأسعار العالمية بل وتدفع عمولات تسويق لهذه الأسعار المتدنية. بل والأغرب منه أن تستهدف حكومة، من المفترض أنها حكومة وليدة ثورة على أوضاع فاسدة ومخربة، بتحريك الأسعار في حدود بالغة التواضع لجمع ثلاثة أو أربعة مليار جنية فقط أي 714 مليون دولار في أفضل الأحوال في حين أن خسائر مصر من مستورد واحد تتعدى 10 مليار دولار سنويا.
نفس هذا المنطق الذي يقف خلف قصور النظر الشديد لحكومة الدكتور شرف، وترجيح الاختيارات المتواضعة الأثر، والمنكمشة في ثوب المفاهيم السابقة لإدارة الاقتصاد، هي نفسها التي تدفع وزير المالية للإعلان عن خطته لطلب 10 مليار دولا في صورة قروض من مجموعة الدول السبع. في الوقت الذي يمكنه توفير ضعف هذا المبلغ على أقل تقدير من خلال إجراءات لإيقاف استنزاف الثروات الوطنية ، دون الحاجة للمزيد من أعباء الاقتراض.
إن المرء لا ينبغي عليه أن يصاب بالدهشة من مثل هذه الاختيارات المتواضعة والمتعارضة مع روح ثورة 25 يناير عندما يكون وزير مالية هذه الحكومة من أعضاء أمانة السياسات للحزب الوطني البائد. كما يشعر المرء بالحيرة أمام صمت واحد من أفضل الاقتصاديين المصريين وهو أستاذنا الدكتور جودة عبد الخالق، وهو يتصرف كأسير داخل الحكومة لا يتحرك خارج قضبان وزارة التضامن الاجتماعي، في الوقت الذي كنا نتوقع منه موقفا أكثر قوة ووضوحا في مثل هذه الأمور ولا يترك تقرير مسارات الحياة الاقتصادية لوزير المالية الهمام عضو أمانة السياسات.
فإذا كانت حكومة الدكتور شرف تسعى لتدبير موارد حقيقية للخزانة العامة فإن الرأي الصائب أن تلغي الحكومة نهائيا مبدأ الوساطة في تصدير الغاز أو أي سلعة أخرى وتلجأ للعقود المباشرة بين الحكومة والطرف الأجنبي المستورد للغاز المصري، وأن تعقد هذه الاتفاقات حسب مستويات الأسعار العالمية. مع ضرورة احترام حكم المحكمة بإلغاء اتفاق تصدير الغاز إلى إسرائيل. وذلك، حتى تحقق الحكومة موارد حقيقية وعادلة من عوائد بيع الغاز المصري وتوقف عمليات الاستنزاف المستمر للثروة الوطنية.
أرسل هذا المقال إلى جريدتي المصري اليوم والشروق. لكن هذا النوع من الصحافة غير المسئولة لم ينشر المقال لأنه ليس من أحد الأصدقاء.