تعكس جمعة 8 يوليو نضج وعي القوى المشاركة في الثورة المصرية، وإصرارهم على تحقيق مطالب الثورة وعدم المساومة عليها. لقد أظهرت هذه الجمعة متغيرا جديدا لم يضعه المجلس العسكري في الحسبان ولا فريق الكتبة ومذيعي التلفزيون الذي يسيرون في ركاب المجلس العسكري. إنه يقظة قوى الثورة، واحتفاظها ببوصلة عملها بلا تشويش، رغم كل المعارك الجانبية والاهتمامات السطحية التي تفجرت هنا وهناك، لكنه في لحظة بالغة الصفاء والوضوح أعلن عن جمعة 8 يوليو لتأكيد اليقظة والتمسك بالمطالب. رغم تعدد الأحزاب والائتلافات إلا أن مطالب الجمعة المليونية لم يعتريها التشويش، ولم تتقاسمها خلافات وجهات النظر. ورغم حرارة الجو والحملات المنظمة لتشويه الثورة واغتيالها معنويا، جاء تجمع المصريين متحديا، ومؤكدا على من دعوا لجمعة 8 يوليو تحت شعار الثورة أولا، هم قادة حقيقيون لجماهير تستجيب لهم وتسير خلف قيادتهم.
نتيجة هذه الوقفة المتحدية يوم 8 يوليو، أقدم المجلس العسكري على عدد كبير من التنازلات. وهي في هذه المرحلة تنازلات موجعة. لقد فرط في وزراء لجنة السياسات وعلى رأسهم وزير المالية المعادي للثورة بطريقة صفقة وسافرة. كما ألقي الضوء بشدة على المحاكمات بعد أن تحولت إلى مهزلة حقيقية، وكان إجراءاتها تشق الطريق نحو إفلات المجرمون من العقاب. لم يكن إجبار المجلس العسكري على ضم قضايا قتل المتظاهرين في قضية واحدة بالأمر البسيط. لأن تفكيك القضايا على مستوى الضباط المسئولين مباشرة بالقتل سوف يسقط التهم بالتبعية عن الرؤوس المخططة والمدبرة أي مبارك والعادلي، وكان هذا هو المسار الذي تسير فيه قضايا قتل المتظاهرين.
تحريك قانون الغدر، كان أحد أهم مكاسب جمعة 8 يوليو، لقد أحدثت بذلك نقله نوعية في مسار المحاكمات، بوضع قضية إفساد الحياة السياسية في بؤرة الأحداث بعد أن تصور جهابذة المجلس العسكري أن إشغال المصريين بقضايا الفساد المالي، والتلويح بأمل استرداد مبالغ طائلة من البنوك الغربية سوف يجعلهم ينسون قضية الفساد السياسي، بل وصل الحد بأحد أعضاء المجلس العسكري (اللواء العصار) للتأكيد بأن تهمة الفساد السياسي ليست في القانون، في دعوة صريحة لإغلاق هذا الملف نهائيا، حتى يفلت الفاسدون.
ظهور قوى الثورة بهذه اليقظة والمقدرة على تحريك الشارع، أربك كل الحسابات، رغم احتواء حركة الأخوان المسلمين بواسطة المجلس العسكري، وتعلق الجماعات السلفية بأذيال المجلس بصفته ولي الأمر الحالي.
هذا الوضع الذي أسفر عن حركة اعتصامات مصممه ينبئ بأن هناك المزيد من الضغوط القادمة في الطريق، وأن حالة اليقظة المدعومة بقوة جماهيرية لا يستهان بها لن تسمح بمناورات جديدة في مجال محاكمة الرئيس المخلوع، ولا في مجال تصفية التركة القذرة للنظام السابق. كما نبئ هذه الحالة الثورية بنتائج غير سارة للمجلس العسكري في الانتخابات، بل إن قوى الثورة يمكنها تعديل قانون الانتخابات المعيب والملتبس بنفس قوة الزخم الراهن لتفويت فرصة ضرب الإرادة الشعبية أمام صناديق الاقتراع.
في مقابل ذلك، خرج علينا المجلس العسكري بمحاولة تخوين أهم حركتين بين حركات الثورة المصرية، إنهما حركة كفاية، وحركة 6 أبريل. تجريم حركة كفاية يعني تجريم حركة احتجاجية جريئة، عمرها 7 سنوات لعبت دورا محوريا في تهيئة الظروف لاندلاع ثورة 25 يناير. ولازالت تمثل أحد أهم الحركات القائدة للثورة المصرية. تجريم حركة 6 أبريل يضرب واحدة من أهم أركان القيادة للثورة المصرية ذات الارتباطات العمالية والامتدادات الواعية في المحافظات. لذلك يعد استهداف هاتين الحركتين عملية مقصودة ومدروسة في مسار مخطط شيطاني لاغتيال الثورة المصرية معنويا والتشكيك في قادتها النبلاء والشرفاء.
في العباسية، كانت القبضة الحديدية في الانتظار. لم يكن الغرض تصفية حركة 6 أبريل أو ضرب اعتصام التحرير ولكنه كان عمل انتقامي رخيص. كان بمثابة الرد المباشر على أوجاع التنازلات التي قدمها المجلس العسكري بعد 8 يوليو. وفي نفس الوقت تنبيه لما يمكن أن يكون عليه الحال في القادم من الأيام. واختبار لنتائج دعايات التخوين التي تزعمها اللواء الرويني على مدى تجاوب الناس مع هذه الأكاذيب، ومستوى صلابة التضامن بين قوى الثورة المصرية (لقد استغربت شخصيا من إقراره على الهواء وببساطة شديدة أنه كان يطلق الشائعات في ميدان التحرير للتأثير على الثوار!!).
لقد خيبت قوى الثورة المصرية آمالهم، وأظهرت درجة راقية من التضامن مع حركتي كفاية و6 أبريل والثقة بهما. كما أثبتت الجماهير المصرية أنها استوعبت دروس التخوين الكاذبة وملتها ولفظتها.
لكن الأمر الذي لا ينبغي التقليل من أهميته هو الإصرار على المضي قدما في مسارات التشكيك والتخوين في قيادات الثورة المصرية، فقد أضافوا إلى حركتي كفاية و6 أبريل 600 منظمة مجتمع مدني تمول من السفارة الأمريكية (كم منظمة مجتمع مدني في مصر أصلا؟). إنهم يمتلكون أدوات إعلامية قوية، من تلفزيون وصحف. وهذا يفسر سبب عدم تطهير المؤسسات الصحفية والإعلامية والاكتفاء بتغييرات شكلية بها. واستبدال وجوه مستهلكة بأخرى لم تستهلك بعد لكنها من نفس الفصيلة منعدمة الضمير المهني. كما لاحظنا تراجعا في أداء الصحف والقنوات التلفزيونية المستقلتين، حتى أن أغلب الصحف المستقلة تعزف عن نشر العديد من الإسهامات الجادة، وتراجعت القنوات المستقلة عن تغطية أحداث التظاهرات والمليونيات والاعتصامات، والاكتفاء بتقارير مجملة. إن مواكبة الحدث تنقل نبض الحدث للمشاهد فترفع من مستوى تفاعله مع ما يدور في ميادين التحرير المصرية. إنهم لا يفعلون ذلك ويدركون الأثر السالب لغيابه.
في الوقت الذي تتصاعد فيه الحملة الشرسة على الثورة المصرية، يتراجع الإعلام المساند للثورة بل ينتقل بعضه في بعض الحالات إلى المعسكر المضاد، مثلما فعلت جريدة المصري اليوم في تغطية أحداث العباسية.
لم يعد الإعلام الموازي عبر مواقع التواصل الاجتماعي كافيا، ولا ما ينشر في بعض الصحف أو من خلال بعض الفضائيات، وبعض المعالجات النزيهة على قناة النيل الإخبارية، ولا الدور الهام الذي تقوم به قناة الجزيرة مباشر. إن الثورة بحاجة للمزيد من الإعلام الثوري.
لقد بعض القيادات والنشطاء بزيارات للمدن والقرى وعقد لقاءات جماهيرية لشرح مطالب الثورة ومناقشة مشكلات الواقع المصري. هذا الاحتكاك المباشر ضروري ومهم جدا تكراره وتكثيفه والرد على كل ما يثار ضد الثورة من أكاذيب. ربما تكون هذه مهمة الأحزاب الوليدة أو التي في طور التكوين، خلال هذه المرحلة.
من الأهمية بمكان دفع الصحفيين الشرفاء في الصحف الحكومية إلى اتخاذ مواقف ضد القيادات الصحفية المأجورة، و ضد مروجي الأكاذيب من صحفي السلطان الذين لم يتخلوا عن أدوارهم القديمة، والحرص على احتلال مساحات للنشر لمساندة الثورة ودحض الأكاذيب. كما ندعو الإعلاميين الشرفاء في ماسبيرو لفرض شروط أكثر مصداقية للعمل، وتحرير هذا المبنى بشكل كامل من الغش والتدليس.
كما أننا في حاجة لوقفة صادقة مع مديري القنوات الفضائية التي تحسب نفسها ضمن حركة الثورة وكذلك رؤساء تحرير الصحف المستقلة المحسوبين على الثورة إلى تحديد واضح للمواقف. إذا كانوا يتعرضون لضغوط، يفصحون عن ذلك، ولا يقللون من شأن الثورة المصرية، فهي قادرة على حمايتهم ودعمهم، ومطاردة من يمارسون عليهم الضغوط، أو يعلنون مواقفهم بشكل واضح، فلا يمكن الإمساك بالعصا إلا من طرف واحد فقط.
د. محمد نعمان نوفل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق