عندما نتأمل الخطوات التي يقوم بها المجلس العسكري في مصر، نجد أنفسنا في مواجهة منهج متناقض بين قيام المجلس العسكري بحماية الثورة في الميادين منذ يوم 28 يناير، وبين ما تم بعد ذلك من خطوات بعيدة كل البعد عن فكرة أنه شريك في الثورة كما يقرر عدد من أعضائه والمتحدثين باسمه.
حماية الثورة في الميادين كانت حقيقة واقعة، خاصة وأن البيان الرئاسي بنزول القوات المسلحة إلى الشوارع قد حدد مهمتها في معاونة قوات الشرطة في حفظ الأمن. لكن الجيش لم يفعل ذلك. وإن كان موقفه في أحداث موقعة الجمل يلقى ببعض الظلال حول هذا الدور وبعلامات استفهام.
ورغم الاحتفاء ببيان اللواء محسن الفنجري بتحية الشهداء، فقد فاتنا أنه قبل أداء التحية للشهداء أدي تحية لقاتلهم وهو الرئيس المخلوع. وقد جاءت هذه التحية بعبارات ينبغي التوقف عندها لفهم الموقف التالي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهذا نص ما قاله اللواء: "يتقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بكل التحية والتقدير للسيد الرئيس محمد حسنى مبارك على ما قدمه في مسيرة العمل الوطني، حربا وسلما، وعلى موقفه الوطني في تفضيل المصلحة العليا للوطن". تلي ذلك تحية الشهداء ورفع اليد ودق الكعوب.
ذهب الكثير من المحللين إلى أن المجلس العسكري يسعى للحفاظ على النظام بعد التضحية برئيسه، هذه التضحية التي وصفها المجلس العسكري بأنها اختيار وطني لصالح "المصلحة العليا للبلاد"، وفي ظني أن العبارة الصحيحة ينبغي أن تكون " المصلحة العليا للنظام"
الاتفاق مع فكرة محافظة المجلس العسكري على النظام قد لا تكون إضافة، ولكن منهج المعالجة من قبل المجلس العسكري يثير علامات استفهام، لأنه يعكس خبرة في التعامل غير معهودة في النظم العسكرية العربية ذات اليد الباطشة التي شهدنا مقدماتها في أحداث العباسية يوم 23 يوليو الماضي، وبيانات التخوين أرقام 69، 70. هذه الممارسة الغبية تليق بالبطش العسكري العربي أو العالم ثالثي. لكن ممارسات من نوع " رصيدنا يسمح" وخلط السم بالعسل، ومجاراة مطالب الثورة إلى حين، وتشتيت الجهود أحيان أخرى. وعقد تحالفات جانبية مع الأخوان والحركات السلفية، وتميع المواقف من الفتنة الطائفية، مع إظهار كم هائل من العواطف تجاه المسيحيين في نفس الوقت. مثل هذه الممارسات غريبة على بطش العسكر الذي نعرفه منذ صدح ديك 23 يوليو من 59 عاما.
في التجارب المعادية للثورات هناك خبرتان. خبرة قمع الثورات، وخبرة احتواء الثورات وحرفها عن وجهتها. الخبرة الأولى يعهد بها في العادة إلى عضلات العسكر. أما الخبرة الثانية فهي لعبة قوى وتنظيمات مدنية. في مصر يقوم العسكر بعملية الاحتواء وحرف الثورة عن وجهتها متحالفين مع الحركات الإسلامية لتشتيت جهد الثورة. واختراع أهداف جانبية من حين لآخر وافتعال معارك عقائدية ليس لها محل، منها على سبيل المثال المعركة الأخيرة حول تهديد المبادئ فوق الدستورية للعقيدة الإسلامية، كيف يكون هذا؟ لا نعرف.
خبرة احتواء الثورة وحرفها عن وجهتها، ظهرت جلية في إحدى بلدان أوربا الشرقية، فليس صحيحا أن جميع هذه البلدان قامت بثورات معلبة كالوجبات الأمريكية السريعة. في المجر كان الأمر مختلفا. أتصور أن تأمل هذه التجربة سوف يساعد كثيرا في إلقاء الضوء على ما يحدث في مصر الآن.
ليس صحيحا أن الثورة المجرية التي بدأت في التجذر من عام 1983 حتى سقوط النظام عام 1989 كانت تدعو إلى دولة رأسمالية، لقد تمحورت هذه الثورة حول أربعة أهداف، وهي:
· حريات ديمقراطية في ظل نظام اشتراكي يضمن تداول السلطة بين الأحزاب وتوفير الحريات النقابية، وحريات الصحافة والإعلام.
· الخروج من الأحلاف العسكرية وإتباع سياسة الحياد في الصراعات الدولية ونبذ التسلح.
· حل مشكلات الأقليات المجرية في الدول المجاورة، وإقامة رابطة معهم مركزها الوطن الأم.
· إيقاف مشروع مولد الكهرباء الهيدروليكي في منطقة "بوش ناج ماروش" لمخاطره البيئة الواسعة، وتكلفته المالية العالية في ظل فوائدة المحدودة للمجر، إذ تذهب غالبية موارد الطاقة المتولدة للنمسا، وليس للمجر.
اشتد ساعد الحركة المعارضة في عام 1988 وتشكل أهم التنظيمات المعبرة عنها وهو المنتدى المجرى الديمقراطي (تأسس عام 1987)، وتصاعدت الحركات الاحتجاجية ضد مشروع بوش ناج ماروش، وضد اضطهاد الأقلية المجرية في رومانيا، وفساد قيادات حزب العمال الاشتراكي. كما حدث عدد من الإضرابات العمالية من أجل تحسين الأجور وأبعاد القيادات الفاسدة، وتهديد مزارعي بعض المزارع الرئيسية بعدم جمع محصول القمح إلا بعد طرد المديرين الفاسدين. وانعكست هذه الحركات الاحتجاجية داخل الجامعات التي نظمت إضرابات واعتصامات ضد نظام الحكم.
في مقابل ذلك قام قادة حزب العمال الاشتراكي المجري بعملية تغيير مسار حادة باتجاه الغرب، انتهت بزيارة رئيس الوزراء إلى الولايات المتحدة ومن هناك وجه بعض الانتقادات للاتحاد السوفيتي. كما وثقوا عرى العلاقات مع ألمانيا الغربية وقتذاك وساهموا مساهمة فعالة (منذ عام 1988) في هجرة الرومانيين والألمان الشرقيين إلى النمسا وألمانيا الغربية. وبذلك ضمن قادة هذا الحزب لأنفسهم موقعا مميزا لدى المعسكر الغربي. في ربيع 1989 تحول الحزب إلى الحزب الاشتراكي المجري واعتنق الاشتراكية الديمقراطية. وفي أكتوبر 1989 أعلنوا بأنفسهم حل الجمهورية المجرية الاشتراكية الديمقراطية، وإعلان جمهورية المجر.
لقد استبقوا الثائرين بخطوات، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد نقبوا في الدفاتر القديمة عن حزب الفلاح الصغير، وبعثوا فيه الحياة. هذا الحزب كان يلعب دورا في الاحتجاجات الفلاحية قبل عام 1944، وهو يدافع عن الملكيات الصغيرة للأراضي. وجاء الحزب حاملا تراثه القديم فأحدث حالة من الفوضى في الحياة السياسية بالمطالبة بأراضي الفلاحين الصغار التي ذابت في التعاونيات الزراعية. ولكنهم أيقظوا شهوة الملكية الصغيرة عند الأحفاد في عملية بحث عن قطع الأراضي الصغيرة التي كان يملكها أجدادهم والمساحات القزمية التي تمثل أنصبة لهم، ولا يعرفون مكان لهذه المساحات. بهذه الطريقة تم تحييد القسم الأكبر من السكان بعيدا عن عملية التغيير، بخلق قضايا وهمية قريبة من تلك القضايا التي تثيرها الحركات الإسلامية في مصر. بل مع تشكيل أول حكومة بقيادة يوجف أنتال الذي رفع راية عودة المسحية إلى المجر، دُفع بين الناس بسؤال غريب حول كون المجر كاثوليكية أو بروتستانتية. لكن هذا السؤال المؤامرة مات في مهده بسبب ارتفاع المستوى التعليمي في البلاد، وعدم اعتبار الاختلافات الدينية قضية مؤثرة.
ظهرت على السطح قضايا الفساد، وهو فساد أثنين من رؤساء الوزارات. أحدهما متهم بتقاضي رشوة من بنوك ألمانيا الغربية والآخر متهم بتقاضي رشوة من حكومة ألمانيا الغربية لتهريب الألمان الشرقيين إلى الغرب قبل سقوط سور برلين. دافع النظام بشراسة عن عدم تقديمهم للمحاكمة، حتى نجح في ذلك. ونجح بالتبعية في إغلاق ملف الفساد كاملا.
طالب الثائرون بمحاسبة جهاز الأمن الوطني الذي روع المواطنين وكبت الحريات وتجسس على الجميع. فكشفت الحكومة قسم من سجلات الجهاز تفضح عمالة بعض المثقفين والفنانين، كما نشروا كم هائل من الفضائح الجنسية، مما مثل تهديدا لعدد من الأسر فطالب الناس بإغلاق الملفات، وأفلت جهاز الأمن الوطني بجرائمه، كما أفلت جهاز مباحث أمن الدولة في مصر بجرائمه.
اخترقت الجماعات الصهيونية المنتدى المجري الديمقراطي بعد تحوله إلى حزب سياسي بمساعدة رئيس الوزراء يوجيف أنتال فخرج منه مؤسسية السبعة عشر جميعا، وأغلبهم اليوم يعانون من الاضطهاد والتهميش، والباقي قبل بأدوار ما في الحياة السياسية منهم مؤسس المنتدى الشاعر المجرى الكبير شاندور تشوري الذي استبعد وجود ديمقراطية في بلاده في خريف عام 2009 لأن الديمقراطية لا تقوم على الفساد.
في عام 1990 أعلنت الحكومة الاستمرار في مشروع مولد الكهرباء الهيدروليكي بوش ناج ماروش ونفت بشدة وجود أي أضرار بيئية
في عام 1991 شاركت المجر بقوات رمزية في حرب تحرير الكويت ضمن قوات التحالف الدولي.
من عام 1992 بدأت أكبر عملية تصفية للثروة الوطنية فيما عرف بمشاريع الخصخصة، وقد صاحبها فضائح مالية مدوية.
في عام 1999 انضمت جمهورية المجر إلى حلف الناتو فيما اعتبره الحزب الاشتراكي المجري نصرا له ودخول إلى التاريخ.
في عام 2003 شاركت المجر بقوات رمزية في حرب احتلال العراق.
في عام 2004 رفض مشروع قانون لدعم الأقليات المجرية في الدول المجاورة بأغلبية كبيرة في البرلمان.
عام 2006 وصف بأنه عام الفضائح المالية الكبرى وشهد أكبر عملية تسوية في مجال الفساد بين الأحزاب المتنافسة على الحكم في أغسطس من نفس العام.
لقد ارتدت المجر تماما عن أهداف ثورتها من خلال عملية احتواء واسعة لحركة الثورة وتفريط من قيادات الثورة في المجر وقبولهم بالدخول في صراعات ليس لها أي معني، ولا يمكن تبرئة حزب الفلاح الصغير من حالة الفوضى التي أشاعها في المجتمع، وفي النهاية تم التخلص منه بفضيحة مالية وجنسية مدبرة.
وللمزيد من تعقيد عمليات التغير الديمقراطي وضع قانون انتخابات على أساس 50% للمقاعد الفردية، و50% للقوائم النسبية. هناك شبة، ولكن القانون المصري أكثر تعقيدا ففي داخل كل قسم 50% أخرى للعمال والفلاحين. وهذه الطبخة المعقدة تتضاعف في نفس اليوم مرتين لانتخابات مجلس الشعب ومجلس الشورى معا.
ترى هل خبرة ما يحدث في بلادنا الآن، خبرة مصرية خالصة، أم أن معمل التجربة التاريخية في أوربا الشرقية أنتج عناصر مفيدة في التعامل مع الثورة المصرية.
د. محمد نعمان نوفل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق