لا تتوقف نتيجة التعديلات الدستورية عند حدود النتيجة المعلنة بواسطة اللجنة القضائية، لكنها تتعدى ذلك إلى الخطوات التالية التي يستعد للقيام بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة من إصدار مراسيم بقوانين من أهمهما قانوني تشكيل الأحزاب، وحظر التظاهر والتجمهر، وما صاحب ظهور مشاريع هذه التشريعات من مظاهر للتحالف مع حركة الأخوان المسلمين، والدور الغريب الذي يقوم به مجلس الوزراء في هذه التشريعات.
في البدء من المهم التساؤل حول جدوى إجراء عملية الاستفتاء من الأصل على المواد العشرة موضوع التعديل، رغم كل الانتقادات التي وجهت للاستفتاء عليها، وخطورة إقرار هذه التعديلات الذي كان يعني إعادة الحياة لدستور 71 سيء السمعة. وعلى الرغم من تصلب الطرف المؤيد لإجراء الاستفتاء كإجراء مكمل لعملية تعديل المواد، والفتوى بصورة غير منطقية بأن إقرارها لا يعني إحياء دستور 71، إلا أنهم انتهوا حيث اقترح معارضو التعديلات، وهو إصدار إعلان دستوري يحدد ملامح المرحلة الانتقالية، والتخلص نهائيا من دستور 71. لكن الحجة الملفقة التي سيقت لتبرير الاستفتاء تلخصت في أن الإعلان الدستوري سوف يتضمن المواد العشرة التي وافق عليها أغلبية المشاركين في الاستفتاء. وطبيعي أن نسأل، عن باقي مواد الإعلان الدستوري التي لم تطرح من الأصل للاستفتاء، هل ستكون مواد درجة ثانية، لا سمح الله، في الإعلان الدستوري؟ حسن وإذا كانت أغلبية المشاركين في التصويت، قد صوتت لصالح الرفض؟ كان البديل سيكون إصدار إعلان دستوري أيضا يتضمن المواد موضوع الاستفتاء، حتى وإن اختلفت صياغاتها بعض الشيء.
أما التبرير الأخير للاستفتاء بأن القوات المسلحة كانت بحاجة للتعرف على رأي الغالبية في التعديلات الدستورية حتى تضمنها في إعلان دستوري، فهذا يقع تحت عنوان " سيناريو ما بعد الأحداث" لأن هناك مواد أخرى لا نعرف شيئا عنها حتى الآن، وسوف تصدر ضمن الإعلان الدستوري المزمع إصداره خلال أيام أو ساعات، دون أن نعرف عن محتواه سوي المواد العشرة التي اختلف حولها عدد كبير من الفقهاء الدستوريين ولم يؤخذ برأي أحد منهم، ولم يدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة حوارا حولها بغرض مناقشة الآراء والاستماع لوجهات نظر أخرى.
ما يمكن استخلاصه من واقعة الاستفتاء، وما رافقها من تخبط، أنه لا توجد رؤية واضحة لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة المرحلة الانتقالية، والاعتماد على خبرات دستورية وقانونية بالغة التواضع في وضع تصورات نحو الخطوات المطلوب اتخاذها. ولا نقصد بالطبع اللجنة التي تشكلت برئاسة الأستاذ طارق البشري. لكننا نقصد ما سبق تشكيل اللجنة وما تلاه من إجراءات.
لقد كان مجموعة الضباط في عام 1952 أبعد نظرا، وأكثر حرصا على أداء مهامهم، فقد لجأوا لأكبر العقول القانونية في مصر في ذلك الوقت وهو الدكتور السنهوري، كما استعانوا بخبرات الأستاذ سليمان حافظ الذي شغل لفترة طويلة وظيفة مستشار مجلس الوزراء، وهو أصلا كان وكيلا لمجلس الدولة.
اختيارات المجلس الأعلى الحالية متواضعة، وعلى الرغم من وجود أسماء هامة في لجنة تعديل الدستور مثل الأستاذ طارق البشري، والدكتور عاطف البنا، إلا أن المشاركين الآخرين لا يمثلون أفضل العقول القانونية. بل والأغرب من ذلك أن المواد المقترحة للتعديل كانت هي نفس المواد الذي رشحها الرئيس المخلوع، وكأن مرجعية المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومرجعية الرئيس السابق واحدة.
لا يمكن اتهام أساتذة القانون الدستوري في مصر بالبخل في إسداء النصح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا للجنة التي قامت بإعداد التعديلات. لقد قام هؤلاء الأساتذة بجهد حقيقي في توضيح الأمور وبالشرح المسهب والمعمق، وأبدوا استعدادهم للقيام بمهام محددة حتى تسير الأمور سيرا حسنا، لكن لا المجلس الأعلى استمع، ولا لجنة الإعداد استمعت، ولا المندفعين في تأييد التعديلات استمعوا، لقد صموا آذانهم. وعندما وجدوا أنفسهم في مواجهة مأزق إحياء دستور 71 تبنوا في صمت اقتراح إصدار إعلان دستوري في ظل تبريرات لا تقنع أحدا.
ينسجم مع عدم وضوح الرؤية مشاريع المراسيم المزمع إصدارها بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، فقد جاء تعديل قانون تشكيل الأحزاب متناقضا إلى حد كبير، فهو يقر مبدأ تشكيل الأحزاب بالإخطار، وفي نفس الوقت يضع عددا من القيود، تتمثل في وجود عبارات غامضة ومطاطة في القانون تحكم من خلالها لجنة الأحزاب في تشكيلها الجديد على حق الحزب في الوجود من عدمه. كما تضع شرطا صعبا وهو ضرورة توافر 1000 عضو مؤسس من 15 محافظة، غافلين بذلك عن أن الحزب الجديد يعكس فكرة، ومجموعة من المبادئ التي لم يلتف من حولها أنصار في مناطق مختلفة، وإلا أصبح على مؤسسي الحزب الجديد أن يسعوا للدعاية لبرنامجهم قبل التأسيس حتى يجمعوا أنصارا من 15 محافظة، ويقعون تحت طائلة القانون لأنهم يقومون بعمل حزبي من دون موافقة من لجنة الأحزاب.
أما مشروع المرسوم بقانون الذي مثل صدمة حقيقية للناس فكان قانون تجريم التظاهر والتجمهر، طبقا لقيود واهية ومطاطة من نوع الإضرار بمصالح الأفراد، وتهديد السلم العام. إنه انقلاب على كل ما نادت به الثورة من مبادئ الحرية، وعودة إلى منطق القمع والقهر في مواجهة الشعب.
تبرير محاولة إصدار هذا التشريع تنبني على ما يتصوره واضعي هذا المرسوم الفضيحة، من أضرار تسببها الإضرابات والتظاهرات الفئوية للاقتصاد الوطني. لكن واقع الحال يقول أن عجز المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومن خلفه حكومة د. عصام شرف عن وضع تصور واضح لمعالجة هذه الحركات الاحتجاجية وحل المشكلات والمظالم التي يعاني منها هؤلاء المحتجين أو إعلان خطة واضحة ومحددة زمنيا لحل هذه المشكلات، هو الذي دفعهم إلى الطريق الأسهل والأخطر والأسوأ في آن واحد وهو طريق القمع.
ما علاقة هذه المواقف المعادية أو لنقل غير الودية مع حركة الثورة بنتائج الاستفتاء؟ إنها الأغلبية التي تجاوزت 77%، والإحساس بأنهم مؤيدين من جمهور عريض، فلا بأس من العين الحمراء.
إذا كانوا قد قرءوا نتائج الاستفتاء بهذه الطريقة فهم مخطئين إلى حد بعيد. وإذا كانوا يتصورون أن تعميق تحالفهم مع حركة الأخوان المسلمين سوف يحقق لهم تأييد واسع بين الجماهير، لذلك يعملون على استرضائهم من خلال تشديد شروط إعلان الأحزاب الجديدة، حتى يخفضوا عدد المنافسين لحركة الأخوان (لقد رحبت حركة الأخوان بمشروع مرسوم تعديل قانون الأحزاب وظهر جليا ابتهاجهم به) فهم أيضا مخطئون إلى حد كبير.
إن المعني الحقيقي لهذه ال " نعم" التي أدلي بها أكثر من 77% من المشاركين في الاستفتاء لا يمكن بأي حال إرجاعه لجهد حركة الإخوان المسلمون.
لقد صوت قسم كبير من المصريين بنعم لأنهم توهموا أن مجرد التصويت بها سوف يحقق الاستقرار في البلاد، وغفلوا عن أن آليات تحقيق الاستقرار مختلفة تماما عن ذلك، وأن تحقيق الاستقرار مرهون بتوافر رؤية واضحة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ولمجلس الوزراء لأولويات المرحلة الانتقالية، وطالما أن هذه الرؤية لا تزال غائبة فلن يتحقق الاستقرار. لكن ما حدث أن الغالبية من البسطاء تصورت أن التصويت على هذا النحو قد يحل المشكلة بالنسبة لها. وقد ضمت هذه الفئة بالأساس أصحاب المحلات التجارية الصغيرة المتضررة من تراجع حركة السوق، ومن العمال باليومية، ومن جمهور واسع من الحرفيين ومن الذين يتاجرون في لا شيء وكل شيء (فريق من الباعة الجائلين المسمين بالأرزقية) تصويت كل هؤلاء ليس نتاج أي دعاية سياسية أو دينية من الإخوان أو غيرهم.
كما صوت بنعم هذا الفريق الذي تأثر بدعاية الإخوان، والجماعات السلفية، تلك الدعاية التي استخدم فيها الكذب والتضليل وتنشيط النزعات الطائفية. وظني أنهم عدديا أقل بكثير من المجموعة السابقة.
ربما من صوتوا ب "لا" يقعون في الفئة الأكثر وعيا، لأنهم على الأقل سمعوا الحوارات واستوعبوها أو قرأوا ما كتب وحددوا موقفا. وإن كان قسماً منهم قد صوت استجابة لدعاية طائفية مضادة لدعاية الجماعات السلفية.
ما يهمنا هنا الفريق الأول الذي صوت بنعم لأنهم المجموعة التي تحركت بعفوية، ولم تبذل الكثير من الجهد في فهم ما يدور من حولها، فضلا عن أن الحوارات التي دارت حول التعديلات الدستورية جاءت في أغلبها حوارات صعبة ومتخصصة فلم توجه اهتمام كبير لغير المتخصصين، ومن لم ينالوا قسطا معقولا من التعليم، وهم بكل أسف غالبية المصريين.
الدرس المستفاد من ذلك يتمثل في ضرورة تحمل المثقفين ومن يعتبرون أنفسهم طليعة وطنية وثورية مسئولية الاهتمام بهذا الجمهور الواسع، ويوجهوا خطابهم إليه، يدعونه بلغته إلى مواقف حركة الثورة، ويهتموا جدا بتفسير الأفكار والهموم التي تشغلهم، حتى لا تستثمر حيرتهم ضد مصالحهم من القوى المعادية للثورة والقوى الأنانية الساعية لمصلحها الخاصة على حساب مستقبل الوطن.
من ناحية أخرى، لقد بدأت حركة الثورة المصرية ثورة 25 يناير كإطار عام ضم كل القوى النشطة على أرض مصر. وبعد أن حققت الثورة ضربة التحول الأولى هرولت أطراف مختلفة تبحث عن مصالحها الخاصة، وربما قبل تحقيق الضربة الأولى الحاسمة المتمثلة في اقتلاع مبارك عن سدة الحكم. من العبث تصور أن تظل القوى المختلفة على نفس المواقف، لكنه من الخطر أن ينفرد أحد الأطراف بعقد تحالفات ضارة بمجموع الحركة ومن أجل مصالح أنانية صرفه لا تضع في الحسبان مستقبل الوطن. مثل هؤلاء الذين يتحركون بأنانية وقصر نظر يستحقون العزل والطرد من تحالفات حركة الثورة. وجودهم يمثل خطر حقيقي وهم قادرين بهذا السلوك الانتهازي على إيقاع أبلغ الضرر بمقدرة الثورة على تحقيق أهدافها. لذلك لابد من إعادة النظر في تحالفات الجماعات والتنظيمات المشاركة في حركة الثورة وتحديد موقف واضح من حركة الأخوان المسلمين، والتأكيد على الدور المخرب الذي قامت به الجماعات السلفية، وفضح هذا الدور والتحذير منه من أجل المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق