بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 مارس 2011

الأولويات الاقتصادية لحل المشاكل العاجلة

فاجأنا وزير المالية الهمام عضو لجنة السياسات بأهم أولوياته وهو إعادة فتح البورصة، زاعما خطر شطب البورصة المصرية، ولا نعرف ممن تشطب البورصة إلا من بعض مؤسسات التصنيف الاقتصادي والائتماني التي تصنف البورصات طبقا لقواعد خاصة بها تعد أساسا لتوجيه النصيحة للمستثمرين لتوجيه استثماراتهم. والبورصة المصرية لا تتمتع من الأصل بمستوى تصنيف جيد، فهي من البورصات ذات مستوى الشفافية المنخفضة. كما ساهم في ذلك عمليات البيع الواسعة التي تمت بعد يوم 25 يناير بغرض تهريب الثروات وأدت إلى خسارة البورصة في يومين 18 % من قيمة أصولها، وتزامن مع ذلك انخفاض حاد في قيمة الجنية المصري أمام أغلب العملات بسبب التكالب على تحويل عوائد بيع الأصول في البورصة إلى عملات صعبة حتى يمكن تهريب حصيلة الغنائم إلى الخارج.
لكن الأثر السلبي لعمليات تهريب الغنائم على قيمة الجنية المصري، كان له أثرا مرتبطا، وهو ارتفاع الأسعار في السوق المحلي بسبب الاعتماد على الاستيراد في أغلب السلع الاستهلاكية خاصة الغذائية.
من ناحية أخرى أدي انعدام الأمن على الطرقات لفترة من الوقت، واستمراره في بعض المناطق حتى الآن إلى تعثر عمليات نقل البضائع من مراكز التصنيع، ومواقع التخزين إلى منافذ البيع. هذا الوضع نتج عنه مشكلتين، الأولى زيادة الأسعار في السوق المحلي بسبب نقص السلع المتاحة لدى تجار التجزئة. أما الثانية فهي إغلاق بعض المصانع بسبب توقف دورة رأس المال لهذه المصانع وتراكم المخزون لديها، ومثل هذه المصانع التي أغلقت تعد مصانع ذات مقدرة مالية محدودة، فلن تتحمل تراكم المخزون، ولا نمو هذا التراكم لوقت لا يعرفون متي ينتهي. أي أن هذه المصانع لم تغلق بسبب الحركات الاحتجاجية ولا بسبب اعتصام ميدان التحرير، وتجمعات الثورة في ميادين المدن المختلفة.
على الأجل القصير جدا، لا يمكن حل مشكلة انخفاض قيمة الجنية المصري، وتصحيح أثر ذلك على الأسعار. لكن أثر انعدام الأمن على حركة تداول السلع يمكن حله من خلال إجراءات محددة تقوم بها الحكومة فورا، بتوجيه القدر الأكبر من قوة الشرطة والشرطة العسكرية نحو تأمين الطرق لتحقيق سيولة انتقال البضائع وإعادة تشغيل المصانع المتضررة. ونرى أن توجيه الشرطة العسكرية جهودها لتأمين الطرق سيكون أجدى وأكرم كثيرا من فض التظاهرات والاعتصامات والاعتداء على الحرم الجامعي.
من ناحية أخرى، تتلخص مطالب ما يسمى بالاحتجاجات الفئوية في مطلبين، هما:
·        عدالة الأجور.
·        الاستقرار الوظيفي
فبدلا من أن تسن حكومة الدكتور شرف قانونا لتجريم الاحتجاج والتظاهر فإنها تستطيع حل المشكلة من خلال الإجراءات التالية:
أولا، لتحقيق عدالة توزيع الأجور لن تحتاج الحكومة إلى موارد إضافية من الخزانة العامة، ولكن الأمر سيحل من خلال مراجعة المرتبات والبدلات والحوافز ومختلف المزايا النقدية التي يحصل عليها كبار موظفي الدولة وبقايا القطاع العام، وبعض موظفي الأجهزة الحكومية المحظوظة، لتحقيق عدالة توزيع الأجور. إن إعادة العدالة لمصروفات الباب الأول ونظم الحوافز سوف يحل هذه المشكلة. ويمكن تحقيق ذلك بتوسيع عضوية المجلس الأعلى للأجور حتى يضم ممثلي إتحاد النقابات المستقلة، وتعرض على هذا المجلس كل أنواع الأجور الإضافية والحوافز والمزايا النقدية المختلفة حتى يحقق العدالة بين العاملين بتخفيض الفارق الهائل بين الحد الأدنى والحد الأعلى لدخول العاملين.
ثانيا، تحقيق الاستقرار الوظيفي لهذا العدد الكبير من العاملين بعقود غير مستقرة، والمحرومون من التأمينات الاجتماعية، وكافة المزايا النقدية، فضلا عن انخفاض أجورهم لما دون أجر الوظائف التي يقومون بها إلى حد كبير، ترجع مشكلتهم إلى سببين، هما:
·        وجود جيش جرار من المعينين على وظائف استشارية من الموظفين المتقاعدين أصحاب الحظوة، وهؤلاء يزاحمون الشباب على الموارد المالية للجهات الحكومية.
·        الأعداد الكبيرة من ضباط الجيش والشرطة المتقاعدين الذين هبطوا على الجهات الحكومية فاحتلوا نسبة لا بأس بها من الوظائف الإشرافية والقيادية، فسلبوا هذا الشباب الحق في التعيين وفي وظيفة مستقرة، فضلا عن سلب زملائهم من العاملين الأقدم والأكفاء من الحق في الترقي. وفي نفس الوقت يجمع هؤلاء الضباط المتقاعدين بين مرتبات تقاعد مجزية وبين مرتبات ومزايا نقدية عالية من الجهات التي يعملون بها.
وفي نفس الوقت، يقوم المعينين بعقود بعمل حقيقي تحتاجه جهة العمل، ولا يجزي عن عمله بصورة عادلة
إذن الحل بسيط، ويكمن في تفريغ كافة الجهات الحكومية وبقايا القطاع العام من هؤلاء المزاحمين للشباب الذي يعمل ولا يملك الحق في أجر مناسب ولا استقرار وظيفي.
على صعيد موازي، تعاني الموارد المالية للدولة من تراجع حالي، وقد ذهب البعض إلى توقع زيادة عالية جدا في عجز الميزانية (قدر بحوالي 190 مليار جنية ولا نعرف على أي أساس تم حساب هذا الرقم). في مواجهة هذه المشكلة هناك حاجة ماسة وعاجلة لزيادة موارد الخزانة العامة من موارد حقيقية.
منذ عدة سنوات أعلن الجهاز المركزي للمحاسبات عن وجود حوالي 600 صندوق خاص في الجهات الحكومية لا تدخل إيراداتها ضمن إيرادات الدولة، ولا تخضع للقيود المالية المعروفة في الصرف. وقد قدر الجهاز المركزي للمحاسبات إيرادات هذه الصناديق بمبالغ كبيرة جدا يعجز المرء عن تصديقها. يضاف إلى ذلك موارد وزارة الداخلية من طابع الشرطة، وبعض الغرامات والمخالفات والرسوم التي لا تدخل ضمن الإيرادات العامة تمول منها المشاريع الاقتصادية للوزارة بعيدا عن القواعد المعروفة للرقابة المالية ولا رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. وهذه المبالغ تمثل موارد ميزانية موازية لوزارة الداخلية، وهي في نفس الوقت خارج الميزانية العامة للدولة. لذلك لابد من ضم جميع موارد الصناديق الخاصة وموارد وزارة الداخلية إلى إيرادات الميزانية، ويتم الصرف منها طبقا لقواعد الميزانية، وحسب أولويات الإنفاق العام. وبذلك تتحقق موارد حقيقية للميزانية من ناحية ويغلق باب متسع للفساد. وينسحب هذا الأمر على موارد الحسابات الخاصة برئاسة الجمهورية، سواء في هيئة قناة السويس أو أي هيئات أخرى.
يضاف إلى ما سبق أن الحاجة إلى تعزيز موارد الاقتصاد القومي بصورة عاجلة في نفس الوقت الذي نلاحظ فيه وجود تسرب كبير لموارد الثروة الوطنية في قطاع البترول، وأبرز مسالك هذا التسرب متمثل في صادرات الغاز التي تتم من خلال شركة (أو شركات) وسيطة ولا يتعلق الأمر بصادرات الغاز إلى إسرائيل فقط، ولكن نفس الأمر يتم بالنسبة لصادرات أسبانيا، وربما هناك بلدان أخرى، فهناك غموض كبير مضروب على صادرات الغاز على وجه التحديد، مع العلم بأن مصر ضمن أكبر ستة بلدان منتجة ومصدرة للغاز (حسب مصادر الحكومة الروسية). لذلك ينبغي إلغاء هذه الازدواجية في تصدير الغاز، والاكتفاء بالتعاقد المباشر مع الحكومة المصرية من خلال عقود جديدة، سنوية. تحدد الحكومة من خلال عمليات التعاقد البلاد التي تستحق أن نتعاقد معها، والكميات المصدرة على ضوء احتياجات السوق المحلي. كما تستعيد الدولة مبالغ العمولات التي كانت تستحوذ عليها الشركة (أو الشركات) الوسيطة. كما نسد بذلك أحد بنود تسريب الموارد الوطنية لصالح تحالف الفساد الذي لا يزال نشطا على أرض مصر.
بقيت نقطة أخيرة، خاصة بالتوقعات المرتبطة بإعادة فتح البورصة في ظل انهيار أسعار أسهم عدد من الشركات الرابحة مثل شركة أو أكثر من شركات الاتصالات، وبعض شركات الأسمنت. مثل هذه الشركات انهارت أسعار أسهمها بسبب عمليات البيع الكبيرة لتهريب الغنائم وليس لأسباب تتعلق بالأوضاع الاقتصادية لمثل هذه الشركات. القيم المنخفضة جدا لأسعار أسهم الشركات القوية يفتح المجال واسعا لعمليات استحواذ كبيرة، قد يترتب عليها سيطرة مستثمرين غير مصريين على أنشطة إستراتيجية في الاقتصاد المصري. والغريب في الأمر أن وزير المالية الهمام عضو لجنة السياسات كان مدركا لذلك عندما صرح بأن الثروات تصنع في أوقات الأزمات وضرب مثلا بتكوين جورج سوروس لثروته ( وهو أحد ملوك عمليات الاستحواذ). لم يضع وزير المالية الهمام عضو لجنة السياسات أي احتياط لحماية الاقتصاد المصري من عمليات استحواذ خطرة تؤثر بشدة على مستقبل عملية التنمية في مصر. فإذا كان وزير المالية الهمام عضو لجنة السياسات لم يتحوط لذلك فالمطلوب من مجلس إدارة البورصة الإسراع في حماية الاقتصاد من عمليات الاستحواذ الواسعة خاصة تلك العمليات التي يترتب عليها بناء أوضاع احتكارية لبعض الأنشطة.
مثل هذه الإجراءات المقترحة تمثل حلولا سريعة لمشكلات حالية متفجرة، لكنها لا تمثل أساسا لتصور للعلاج على المدى القصير أو المتوسط فهناك إجراءات من نوع آخر ضرورية لإعادة تنظيم سوق العمل، والميزانية العامة، والاستثمار، وتنظيم الصادرات، وحماية الثروة البترولية. وفوق كل ذلك وضع تصور واضح لعملية التنمية.
د. محمد نعمان نوفل
أستاذ م بجامعة المنوفية
مستشار بالأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية
دولة الكويت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق